السَّؤالُ الأوَّل : هل يجوزُ الجِدَالُ في الدِّين ؟
الجوابُ الأوَّلُ بإذنِ اللهِ :
يقولُ الله تعالى في كتابِهِ العزيز : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ).
نجدُ الكثيرَ من عامَّةِ النَّاسِ لا يلتزمونَ خَطَّ التَّقوى الذي غايتُهُ إرضاءُ اللهِ، لكنَّهم يَلتزمونَ تَقليدًا وهميًّا مخافةَ الأهلِ والمجتمعِ، فَنَراهُم يَرتادونَ الجوامعَ إرضاءً لِجيرانِهم، وَيَصومونَ إرضاءً لأهلِهم، وَيَمتنعونَ عن المحارمِ خوفًا من كلامِ النَّاسِ، ويتَّهمونَنا بعدمِ إقامةِ الصَّلاةِ أو صيامِ شهرِ رمضانَ أو حَجِّ البيتِ مباهاةً وَرِياءً أمامَنا، يُشبِهونَ مَن ذَكرَهم سيِّدُنا المسيح (ع) بقوله: (مِن خارجَ تَظهَرونَ للنَّاسِ أبرارًا، ولكنَّكم مِن داخلَ مَشحونونَ رِياءً وَإثمًا).
وإذا ما دَعوناهُم للجدالِ بالعلمِ والكتابِ امتثالًا لقولِهِ تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، يمتنعونَ عن مُواجهَتِنا الجادَّةِ، لكنَّهم يتحرَّكونَ مِن خلالِ أهوائِهم العصبيَّةِ ضِدَّنا، فلا يَركنونَ إلى قاعدةٍ علميَّةٍ، أو إلى انفتاحٍ فكريٍّ، لأنَّهم لا يُواجهونَ أنفسَهم بأخطائِهم وأخطاءِ سَادَاتِهم وَزُعمائِهم وَشُيوخِهم المُعظَّمينَ فقد (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله)، وكلُّ ما هنالكَ أنَّهم يَنتهزونَ الفرصةَ السَّانحةَ للانقضاضِ علينا واتِّهامِنا وَتَخويننا وإخراجِنا عن الإسلامِ
لذلكَ نَجدُ الجِدَالَ على نوعين: جِدَالٌ شخصيٌّ وجِدَالٌ فكريٌّ.
فَمنهم مَن يَدخُلُ معَنا في جِدَالٍ ولكنَّهُ لا يَملكُ الدَّلائلَ العلميَّةَ والنُّصوصَ الدِّينيَّةَ التي تُتيحُ لهُ فرصةَ الدُّخولِ في الجِدَالِ المُفيدِ المؤيَّدِ بالحجَّةِ والبرهانِ، فلا يكونُ الموقفُ مواجهةَ فِكرٍ لِفِكرٍ، بل موقفَ شخصٍ ضدَّ شخصٍ آخرَ، وَيَتحوَّلُ الجدالُ إلى جِدَالٍ شخصيٍّ يُؤدِّي إلى المُهاتراتِ.
وهذهِ هي مشكلةُ الكثيرينَ ممَّن يَتَّخذونَ مَوقفًا دونَ فكرٍ، وَيَدخلونَ في الجِدَالِ دونَ امتلاكِ أدواتٍ فكريَّةٍ وعلميَّةٍ، فتكونُ النَّتيجةُ إثارةَ الجَلَبَةِ والشَّغَبِ، واستثارةَ العواطفِ والعصبيَّاتِ لا أكثرَ، وَيَتمثَّلُ هؤلاءُ بالهَمَجِ الرُّعاعِ الذينَ يُقَلِّدونَ شيوخَهم في مواقِفهم وأفكارِهم، مِن دونِ أن يَفهَموا حقيقَتَها وخلفيَّاتِها وَنَتائجَها الإيجابيَّةَ والسَّلبيَّةَ، ويدافعونَ عن الأفكارِ المنحرفةِ بحماسٍ يفوقُ حماسَ أصحابِها، فَيَستخدمونَ أساليبَ الاتِّهامِ الرَّخيصِ والمسبَّاتِ والشَّتائمِ والتَّنابذِ بالألقابِ التي قد تُؤدِّي إلى التَّقاتُلِ والتَّنازعِ فَيُعيقونَ تَطوُّرَ المجتمعِ بفعلِ تيَّارِ الجهلِ والفوضى الذي يَصطنعونَهُ.
أمَّا مَن يَتَّبعونَ علماءَ السُّوءِ الذين يعملونَ على إبعادِ النَّاسِ عن طريقِ الخيرِ، فإنَّهم يُجَمِّدونَ تفكيرَهم لِيَتَّبعوا الأفكارَ المنحرفةَ لِسَادَتِهم دونَ وعيٍ، وَيَتحرَّكوا عندها لتحقيقِ مخطَّطاتِ الشَّرِّ والضَّلالِ فينطبقَ عليهم قولُهُ تعالى: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَّرِيدٍ)، وكذلك قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ) أي اتَّخَذَهُ مُرشِدًا وسيِّدًا له (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) لأنَّه أغمضَ عينيهِ وأغلقَ أذنيهِ وجمَّدَ دماغَهُ وصارَ خاضعًا بكليَّتِهِ لشيطانِهِ الذي سوفَ (وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، وهو نهايةُ طريقِ الضَّلالِ والانحرافِ.
وعندَ قراءةِ أسلوبِ المجادلِ الأعمى، نلاحظُ أنَّه يتميَّزُ بصفتين:
الأولى: افتقادُهُ إلى العقلِ الذي يفتحُ أمامَهُ أبوابَ استقبالِ نورِ العلمِ.
والثّانية: اتِّباعُهُ الشَّيطانَ الخبيثَ الذي يريدُ للإنسانِ أن يتحرَّكَ في طريقِ الشَّرِّ، وأن يبتعدَ عن طريقِ الخيرِ.
هنا نفهمُ أنَّ لِعِلمِ التَّوحيدِ أهميَّةً أساسيَّةً في حياتنا، وفي تطوُّرِ المجتمعِ الفكريِّ والعمليِّ، والتّأكيدُ عليه يمكنُ أن يؤدِّي إلى إيضاحِ الاختلافاتِ العقائديَّةِ من موقعِ التَّنوُّعِ المذهبيِّ لا من موقعِ التَّعصُّبِ الأعمى، وبذلكَ يمكنُ أن يكونَ الجدالُ الفكريُّ طريقًا لإيضاحِ الحقِّ وقد قالَ الإمام الصَّادقُ (ع): (بَيِّنُوا للنَّاسِ الهُدَى الذي أنتم عليهِ، وَبَيِّنُوا لَهُم ضَلالَهُم الذي هُمْ عليهِ، وَبَاهِلُوهُم في الإمامِ عليٍّ”.
لذا يجبُ تأكيدُ ضرورةِ الانطلاقِ من مبدأ الاقتناعِ الفكريِّ بِمَن نَقتدي بهم، لا مِن مبدأ التَّقليدِ الأعمى الذي يَتمسَّكُ به كثيرٌ من السُّنَّةِ والشِّيعةِ، ولا سيَّما في المسائلِ الدِّينيَّةِ المُختَلَفِ عليها كالعصمةِ والغلوِّ والتَّوحيدِ وغيرها، ما يَجعلُ المؤمنَ بِمَأمَنٍ من الوقوعِ تحتَ سيطرةِ المُنحرفينَ عن الصِّراطِ المستقيمِ، أو في قبضةِ التَّضليلِ والأوهامِ الذي مارسَهُ التَّكفيريُّونَ القدماءُ بحقِّ سادَةِ العلويَّةِ الطَّاهرين.
نكتفي لعدمِ الإطالةِ واللهُ أعلمُ.
الدكتور أحمد أديب أحمد