التَّقيَّة الدينية بين المعتقَد السري والافتراءاتِ الوهابيَّة
الباحث العلوي السُّوري الدكتور أحمد أديب أحمد
كتبَ الباحثُ السُّوريُّ في الشُّؤونِ الدِّينيَّةِ أحمد أديب أحمد مقالاً لموقع مصر تايمز قال فيه:
يخطئُ كثيرًا مَن يظنُّ أنَّنا كعلويِّينَ نمارسُ التقيَّةَ لإخفاءِ معتقداتِنا السِّرِّيَّةِ التي أشاعَها أعداؤنا واتَّهمونا بها، من خلالِ ما نشروهُ على صفحاتِ الإنترنيت وفي الأسواقِ تحتَ مسمَّى (مخطوطاتٍ علويَّةٍ باطنيَّةٍ) أو معتقداتٍ خاصَّةٍ اتَّهمونا بها زورًا كزعمِهم أنَّنا نعبدُ البشرَ ولا نؤمنُ بالنَّبيِّ محمَّد (ص) وأنَّنا نحلِّلُ شربَ الخمورِ والسُّكرَ والعربدةَ والزِّنا وتناسخَ الأرواحِ و…..إلخ، فكلُّ ما نسبوهُ إلينا من الشُّبهاتِ والانحرافاتِ العقائديَّةِ كانت غايتُهُ أن يغطُّوا على انحرافاتِهم العقائديَّةِ التي أسَّست لها أهواؤهم الشيطانيَّةِ.
تلكَ الافتراءاتُ بدأتْ تنالُ منَّا كعلويِّينَ بعدَ انتشارِ كتبِ التَّكفيرِ البعيدةِ عن سُنَّةِ رسولِ اللهِ محمَّد (ص) وعن نهجِ أهلِ البيتِ (ع)، لأنَّ السَّنَّةَ النّبويَّةَ والنَّهجَ الإماميَّ لم يدعُوَا إلى تَكفيرِ أحدٍ، ولا إلى الافتراءِ عليهِ، ولا اتِّهامِهِ بما ليسَ فيه، عدا عن التَّحريضِ على قتلهِ وذبحِهِ وسبيِ أعراضِهِ واسترقاقِ أبنائِهِ فأيَّةُ ثقافةٍ تكفيريَّةٍ تلكَ التي حملَها أعداؤنا من أتباعِ ابنِ تيميَّةَ وأبي حامد الغزالي والشَّهرستاني وابن حزم الأندلسي وغيرهم، وأيَّةُ دعواتٍ للإخراج من الدِّين والقتلِ مارسوها ضـدَّنا، ونحن كنَّا وما زلنا على ســنَّةِ الرَّســولِ محمد (ص) وعلى نهجِ الإمام علي كرَّم اللهُ وجهَهُ لا نحيدُ عنه قيدَ أنملةٍ مهما جارَ الزَّمنُ علينا.
والسؤال الذي يطرحُ نفسه: لماذا كلُّ هذا الحقدِ والافتراءِ على العلويَّةِ النُّصيريَّةِ، وهل هناكَ مبرِّراتٌ لقتلِهِم وذبحهِم والجهادِ ضِدَّهم، وهل عاشوا هذا الخوفَ قبل ذلك؟
إنَّ الحقدَ الوهابيَّ على العلويَّةِ النُّصيريَّةِ كانَ بسببِ الصِّراعِ بين الالتزامِ العلويِّ النُّصيريِّ بسُنَّةِ نبيِّ الإسلامِ (ص)، والانحرافِ الوهابيِّ الشَّيطانيِّ وراءَ الكافرِ الزِّنديقِ محمد بن عبد الوهاب لعنه الله، وسأذكرَ بعضًا منها للإيضاح:
1- الوهابيُّونَ يشبِّهونَ اللهَ بالبشرِ والمخلوقاتِ، والدَّليلُ شبهةُ ابن باز في كتابِه (تنبيهاتٌ في الرَّدِّ على مَن تأوَّلَ الصِّفات): (نفيُ الجسميَّةِ والجوارحِ والأعضاءِ عن اللهِ من الكلامِ المذمومِ )، وشبهةُ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه (فتح المجيد): (اللهُ جالسٌ على الكرسيِّ)، لكنَّ ردَّنا عليهم أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى لا يمكنُ أن يجلسَ على عرشٍ أو كرسيٍّ لأنَّ هذا من صفاتِ البشرِ المخلوقين لا من صفاتِ اللهِ الذي ليسَ بجسمٍ ولا له جوارحُ ولا أعضاء، والدَّليلُ قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
2- الوهابيُّونَ يجعلونَ اللهَ سبحانَهُ وتعالى خاضعًا للمكانِ، والدَّليلُ شبهةُ ابن باز في مجلَّةِ الحجِّ عام 1415 هـ: (اللهُ فوقَ العرشِ بذاتِهِ)، لكنَّ ردَّنا عليهم أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى لا يمكنُ أن يحدَّهُ المكانُ لأنَّهُ منزَّهٌ عن المكانِ، والدَّليلُ قولُ رسولِ اللهِ (ص): (كانَ اللهُ ولم يكنْ شيءٌ غيرُهُ).
3- الوهابيُّونَ يُوقعونَ الباري تحتَ الأمكنةِ والجهاتِ، والدَّليلُ شبهةُ ابن عثيمين في كتاب (فتاوى العقيدة): (اللهُ في جهةٍ فوقَ العرشِ بذاتِهِ)، لكنَّ ردَّنا عليهم أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى منزَّهٌ عن الأمكنةِ وعن الجهاتِ بدليلِ قولِ الرَّسولِ الأكرمِ (ص): (اللهمَّ أنتَ الظَّاهرُ فليسَ فوقكَ شيءٌ، وأنتَ الباطنُ فليسَ دونكَ شيءٌ).
ولا يخفى على أحدٍ كيف لاحقَ مشركو قريش أصحابَ الرَّسولِ (ص) أثناءَ الدَّعوةِ سِرًّا، وكيفَ تابعَ أحفادُهم من بني أميَّةَ ملاحقةَ الأئمَّةِ وأصحابَهم (ع)، وكيفَ أمعَنوا في قَتلِهم وَصَلبِهم وَذَبحِهم، فمنهم أبو ذرٍّ الغفاريُّ الذي ما أظلَّتِ الخضراءُ ولا أقلَّتِ الغبراءُ أصدقَ ذي لهجةٍ منه فنُفِيَ إلى الرَّبدةِ وسُحِلَ جسدُهُ في الصَّحراءِ واستشهدَ، ومنهم زيدُ بن صوحانَ الذي استشهدَ يومَ الجملِ، ومنهم عمَّارُ ابن ياسرَ وخزيمةُ بن ثابتَ الأنصاريُّ اللَّذين استشهدا في صفِّينَ، ومنهم حجرُ بن عدي الذي قتلَهُ معاويةُ بن أبي سفيانَ أصلُ الخرابِ في التَّاريخِ الإسلاميِّ، ومنهم أصحابُ الإمامِ الحســينِ (ع) في كربلاءَ، ومنهم أصحابُ الأئمَّةِ (ع) الذين قتلهُمْ بنو أميَّةَ وبنو العبَّاس، وهذا الدَّمُ لا يتوقَّفُ أبدَ الدَّهرِ حتَّى يأتي القائمُ المنتظَرُ (ع) لِيُعيدَ الحقوقَ لأصحابِها.
واستمرَّ الاضطِّهادُ المريرُ لأبناءِ نهجِنا العلويِّ النُّصيريِّ على مَدَى قرونٍ طويلةٍ بدافعٍ من العداءِ الدِّينيِّ، فلابدَّ أن نَمُرَّ على بعضِ الحقباتِ التَّاريخيَّةِ التي تَمَّ ذكرُها في كتبِ التَّاريخِ، وأبرزُ تلكَ الحقباتِ تلكَ الحقبةُ التي شَعْشَعَتْ فيها أنوارُ الدَّولةِ الحمدانيَّةِ بقيادةِ القائدِ المؤمنِ العلويِّ سيفِ الدَّولةِ الحمدانيِّ الذي كانَ أحدَ طلَّابَ العلمِ في مدرسةِ سيِّدنا الحسين بن حمدان الخَصيبيِّ، وكانَ تجمُّعُ أبناءِ نهجِنا العلويِّ النُّصيريِّ متركِّزًا آنذاكَ في حلبَ ومناطقِها، لكنْ منذُ ذلكَ الحينِ قامَتْ سلسلةُ المذابحِ بحقِّنا، حيث شنَّ آلُ زنكي أوَّلَ حملةٍ ضدَّ أجدادِنا في حلبَ ما أسفرَ عنها سفكُ الكثيرِ من الدِّماءِ البريئةِ، ثمَّ جاءَ بعدَهُ صلاحُ الدِّينِ الأيوبيُّ وبعضُ الأيُّوبيِّينَ من بَعدِهِ حاملينَ كلَّ حقدِهم وشنُّوا حملةً أشدَّ وأعنفَ من سابقَتِها، وامتدَّتْ جذورُها بدءًا من القرنِ السَّادسِ للهجرةِ حتَّى القرنِ العاشرِ للهجرةِ حيث جاءَ الطَّاغيةُ سليمُ الأوَّلُ بمجزرةٍ راحَ ضحيَّتَها أكثرُ من أربعةٍ وأربعينَ ألفًا من علويِّي الأناضولِ وعشراتُ الآلافِ من علويِّي حلبَ، وكان ممَّنْ أيَّدَهُ على هذهِ الجريمةِ النَّكراءِ الدَّاعيةُ نوح الحنفيُّ الذي أفتى بأنَّنا خارجونَ عن الدِّينِ ويجبُ قتلُنا، فأُبيدَ بهذه الفتوى من مؤمني حلب العلويِّينَ أكثرُ من أربعينَ ألفٍ، ونُهِبَت أموالُهم وتمَّ تهجيرُ الباقينَ، وفي شهرِ رمضانَ من العامِ 1212 هـ، حدثَتْ مجزرةٌ رهيبةٌ مفجعةٌ بإيعازٍ من الأتراكِ العثمانيِّينَ، حيث عَظُمَتِ الفتنةُ في حلبَ فالتجأَ ساداتُ العلويِّينَ إلى جامعِ (الأطروش) وحُوصِرُوا فيه ومُنعوا من الماءِ، حتَّى فُتحَتْ أبوابُ الجامعِ فَفَتَكَ البكجريَّةُ بهم ذبحًا وبقرُوا بطونَهم وطرحوهم في الآبارِ وهم أحياءُ، ثم هَجَمُوا على أحيائِهم في حلب فقضَوا على السُّكانِ قضاءً تامًّا إلاَّ الأطفال، فسُمِّيَ الحيُّ باسمِهم: (حارةُ الصِّغار)، ممَّا اضطرَّ أجدادَنا للتَّكتُّمِ بعدَ ذلكَ والتَّستُّرِ بأحدِ المذاهبِ الأربعةِ حتَّى انقرضُوا تقريبًا في حلبَ وتَسَنَّنَ معظمُهم، وبقيَ منهم عدَّةُ بيوتٍ يَقذفُهم النَّاسُ بأنَّهم رافضةٌ، ومنهم مَن لم يزلْ محافظًا على مذهبِ أهلِ البيتِ لا يصـرِّحُ إلا لِمَنْ يَثِقُ به. وقد شـــملَتْ هذه المجازرُ المذكورةُ ما لا يَعلَمُ عددُهُ من أجدادِنا إلاَّ الله، ممَّا أدَّى إلى لجوئِهم إلى إخوانِهم المنعزلينَ لنفسِ السَّببِ في أقاصي الأريافِ وفي رؤوسِ الجبالِ وسفوحِها السُّوريَّةِ الغربيَّةِ، وكانت للجميعِ عاداتُهم الفطريَّةُ مشوبةً بالخوفِ والذُّعرِ من عادياتِ الزَّمنِ، ومنبثقةً في ماهيَّتِها عن الطَّبيعةِ الصَّافيةِ، وعن التَّعاليمِ الرُّوحيَّةِ السَّماويَّةِ.
ومع ذلك فنحنُ نلتزمُ بالنَّصِّ المأثورِ عن أهلِ العصمةِ بمعزلٍ عن الأخذِ بعينِ الاعتبارِ خصوصيَّات الزَّمانِ والمكانِ، لأنَّ التَّقيَّةَ الدِّينيَّةَ مفروضةٌ على المؤمنينَ لأنَّها دينُ اللهِ، فالمسألةُ لا تتعلَّقُ بظروفٍ معيَّنةٍ ضاغطةٍ فقط، بل القضيَّةُ قضيَّةُ منطلقٍ دينيٍّ سماويٍّ يجبُ القبولُ بهِ، وليسَ منطلقًا حلَّ في فترةٍ معيَّنةٍ فقط، والتقيَّةُ من الواجباتِ الإيمانيَّةِ التي لا يجوزُ التَّهاونُ بها، فهي دينُ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى، المتمثِّلِةُ بقول الإمام الصادق (ع): (التَّقية دينُ الله).
لكنْ لابدَّ من التَّنبيهِ إلى أنَّ التَّقيَّةَ الدِّينيَّةَ لا تعني أنَّنا نكتمُ معتقداتٍ وكتبًا سِرِّيَّةً كما يروِّجُ البعضُ لأنَّنا نقرُّ أنَّ اللهَ أتى بسرِّهِ عمومًا لا خصوصًا، ولكنْ بعدَ جحودِهِ ونكرانِهِ أمرَ بكتمانِ السِّرِّ ولم يأمرْ بكتمانِ المُعتَقَدِ والانتماءِ للإمامِ عليٍّ كرَّم اللهُ وجهَهُ, وهو الحاكمُ العادلُ لا يَدَعُ لمخلوقٍ حجَّةً عليهِ, ليَهدِيَ مَن يَهتدي عن بيِّنَةٍ، ويُضِلَّ من يَضُلُّ عن بيِّنةٍ، وهو معنى قول الإمام الصَّادِقِ (ع): (سِرُّ اللهِ مَبثوثٌ بَينَ خَلقِهِ لا يَعرِفُهُ أكثَرُهُم)، وهذا أمرٌ أرادَهُ اللهُ تعالى وأمرَنا به، وهذا الكتمانُ أمرٌ قامَ به الأئمَّةُ وأصحابُهم (ع) قبل أن يأمرُونا به، فقد وردَ عن أميرِ المؤمنين عليٍّ كرَّم اللهُ وجهَهُ أنَّه قالَ لأحَدِ خواصِّهِ: (إنَّ للهِ رجالاً أودَعَهُم أسرارًا خفيَّةً ومَنَعَهم من إشاعَتِها)، لأنَّ للهِ أسرارًا لا يجوزُ أن تذاعَ لقولِ الإمام الصادق (ع) في وصيَّتِهِ للمعلَّى بن خُنيس: (يا مُعَلَّى إنَّ المذيعَ لأمرِنا كالجاحدِ لَهُ). فالإيمانُ ليسَ فقط في قبولِ المعتقدِ.. بل في صيانةِ السِّرِّ الإلهيِّ لقولِ سيِّدنا المسيحِ (ع) الذي أوصانا بحفظِ الحقيقَةِ: (لاَ تُلقوا بِدُرَرِكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ لِئَلَّا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ).
هذا يعني أنَّ السِّرَّ الحقيقيَّ ليس ذلكَ الذي نشروهُ على صفحاتِ الإنترنيت وفي الأسواقِ، فكلُّ هذا بعيدٌ عنَّا لأنَّ نهجَنا العلويَّ النُّصيريَّ في التَّوحيدِ وإقامةِ الشَّرعِ المحمَّديِّ واضحٌ للعِيانِ، لكنَّ السِّرَّ هو في فهمِ الأسرارِ العظيمةِ التي تحويها الآياتُ والأحاديث وتشيرُ إليها إشارةً وتحقيقًا، فلا يستطيعُ فهمَها إلا مَن رحمَهم الله، في أيَّةِ طائفةٍ كانوا، لأنَّ جنودَ اللهِ ودُعاتُهُ وأخيارُهُ هم صفوةُ الصَّفوةِ من البشريَّةِ سواءَ كانوا موجودينَ بين العلويَّةِ أو السُّنَّةِ أو الشِّيعةِ أو المسيحيَّةِ أو العلمانيَّةِ، وآثارُهم تتكَّلمُ عنهم، وليسوا بحاجةٍ إلى شهادةِ الأدنى لأنَّ شهادةَ الأعلى هي التي اختارَتهم ليكونوا حجَّةً على العالَمين.
المصدر: مصر تايمز