السُّؤال التَّاسع: هل يجوزُ شتمُ الصَّحابةِ وسبُّهم لمجرَّدِ أنَّهم غصَبوا الخلافةَ من الإمامِ عليِّ؟ وما هو موقفُ الإمامِ علي من مخالفيهِ؟
الجوابُ التَّاسع بإذنِ اللهِ:
الشَّتمُ والسَّبُّ بدعةٌ سُنِّيَّةٌ أمويَّةٌ جرتَ عندما لَعَنُوا الإمامَ علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ على المنابر ألفَ شهر، فبادرَهم الشِّيعةُ عندما قويَتْ شوكَتُهم بِسَبِّ أبي بكر وعمر وعثمان، وما زالتِ الشَّتائمُ قائمةً حتى الآن بينهم دون أن يتمسَّكَ أحدٌ منهم بالحُجَّةِ، فهُم يتشاتمونَ ويتسابَبونَ منذُ ألف وأربعمائةِ عام، دون أن يقدّمُوا للإسلامِ شيئًا مفيدًا.
إنَّ المخالفينَ لأميرِ المؤمنينَ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ هم من أشعلوا الفتنةَ، وهم الشَّجرةُ الملعونةُ في القرآنِ، ويكفينا قولُ سيِّدنا المسيحِ (ع): (طُوبى لكم إذا حُسِدْتُمْ وشُتِمْتُمْ وقيلَتْ فيكم كلُّ كلمةٍ قبيحةٍ كاذبةٍ، حينئذٍ فافرَحوا وابتَهِجُوا فإنَّ أجركُم قد كَثُرَ في السَّماءِ).
ولو تَخَلَّقَ كلٌّ من رجالاتِ الشِّيعةِ والسُّنَّةِ بأخلاقيَّاتِ المسيحِ والرسولِ وأهلِ البيتِ (ع) لَمَا كنَّا قد وَصَلنا إلى ما نحنُ عليه اليوم، فالقضيَّةُ لا تُحَلُّ بالسَّبِّ والشَّتمِ والافتراءِ واختلاقِ القصصِ الكاذبةِ، ولا بالصَّمتِ الخانع المُذلِّ، بل بالحكمةِ والقوَّةِ والحُجَّةِ العقليَّةِ.
فأبو بكر وعمر وعثمان عاجزونَ أمامَ الإمامِ علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ، فهل استطاعوا حقًّا غصبَ الخلافةِ التي ثبَّتَها اللهُ ورسولُهُ له في كثيرٍ من الأحاديثِ المُجمَعِ عليها؟
والإمامُ علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ موصوفٌ بالقدرةِ، ومن كانَ هكذا فهو ليسَ ضعيفًا أمامَهم حتى يتنازلَ عن حقِّهِ المشروعِ بسهولةٍ، لكنَّهُ كانَ رئيسًا عليهم دونَ أن يتربَّعَ على كرسيٍّ، ومن أمثلةِ ذلكَ ما قاله عمر بن الخطاب حين كان يُفتي برأيهِ فيخطئُ فيُصحِّحُ لهُ الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ، ما أجبرَ عمرَ على القولِ مرارًا: (لولا عليٌّ لَهَلَكَ عُمَر).
إنَّ الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ له مقامٌ رفيعٌ، لذلك لا يَسعى لطلبِ الرِّئاسةِ، ولا يَسُبَّ من سلبَهُ حقَّهُ أو يُشهِّرَ بهم، فالتَّاريخُ يذكرُ أعمالَ كلِّ شخصٍ، ولهذا جاء قولُ الإمام الحسن العسكري (ع): (إيَّاكَ والإذاعةَ وطلبَ الرِّئاسةِ فإنَّهما يدعوانِ إلى الهَلاكِ).
فحكمةُ الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ هي التي خلَّدتْ ذكرَهُ كعظيمٍ من العظماءِ، فبعدَ السَّقيفةِ لم يعتزلِ الإمام علي النَّاسَ ولم ينكفئ على نفسِهِ، وكأنَّهُ باتَ بلا دورٍ كما تظنُّ السُّنَّةُ والشِّيعةُ، لأنَّ القضيَّةَ لم تكن بالنِّسبةِ له مجرَّدَ كرسيِّ خلافةٍ مُنِعَ من تولِّيهِ كما تظنُّ الشِّيعةُ، بل كانت قضيَّةَ تعليمٍ لإعلاءِ كلمةِ الحقِّ العلويِّ من أيِّ موقعٍ يكونُ فيه المؤمنُ، فالدُّورُ موجودٌ برئاسةٍ أو بدونِها، وعلى الإنسانِ المؤمنِ المجاهدِ أن يسعى لتحقيقِ الدَّورِ لا لطلبِ الرِّئاسة، فلو أظهرَ الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ سعيًا إلى طلبِ الرِّئاسةِ لكانَ النَّاسُ قد انشقُّوا عن دينِ الإسلامِ، لكنَّهُ حافظَ على المسلمين وبقي له الدَّورُ الأكبرُ في استمرارِ رسالةِ الحقِّ المحمّديَّةِ، وقد عبَّرَ عن ذلكَ بخطابِهِ المرسَلِ إلى أهلِ مصرَ مع الصَّحابيَّ الجليلِ مالك الأشتر، ولكنَّهُ لم يصلْ إليهم، إذ اغتالَهُ معاوية الأمويُّ الحاقدُ على بني عبد المطَّلبِ (ع)، وجاءَ في الكلمةِ: (فَمَا رَاعَنِي إلَّا انثيالُ النّاسِ على أبي بكر يُبايعونَهُ فأمسكتُ يدي، حتَّى إذا رأيتُ راجعةَ النَّاسِ قد رَجعَتْ عن الإسلامِ، يَدعونَ إلى مَحْقِ دينِ محمَّد، فخشيتُ إنْ لم أنصرِ الإسلامَ وأهلَهُ، أنْ أرَى فيه ثلمًا أو هَدمًا، تكونُ المصيبةُ به عليَّ أعظمَ من فَوتِ ولايَتِكم هذهِ التي إنَّما هي متاعُ أيَّامٍ قلائلَ، يزولُ منها ما كانَ، كما يزولُ السَّرابُ، أو كما يتقشَّعُ السَّحابُ، فنهضتُ حتى زاحَ الباطلُ وَزَهُقَ، واطمأنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَهَ)، وهذا هو الفرقُ بين أبي بكر الذي طلبَ الرِّئاسةَ، والإمامِ علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ الذي حافظَ على الدَّورِ حتى جاءَ الوقتُ فَطَلَبَتْهُ الرِّئاسةُ وبايَعَهُ المسلمونَ بطريقةٍ تُعتبرُ أولى الحركاتِ الدِّيمقراطيَّةِ في العالم حين ذهبوا دارَهُ وأخرجوهُ حملاً على الأيادي مبايعينَ له بالإجماعِ الشَّعبيِّ.
هذا الدُّورُ في استمرارِ إعلاءِ كلمةِ الحقِّ هو الذي علَّمنا إيَّاهُ الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ بأن نتابعَهُ مجاهدينَ لإعلاء كلمةِ الحقِّ ومحاربةِ أهلِ البدعِ والشُّبهاتِ الباطلةِ من موقعِ المسؤوليَّةِ لا من موقعِ التَّكليفِ، وقد قال مؤكِّداً مسؤوليَّتَهُ: (لولا حضورُ الحاضرِ، لألقيتُ حبلَها على غاربِها، ولَألفَيتُم دنياكَم عندي أهونَ من عفطةِ عنـزٍ)، لهذا لا تعنينا المناصبُ الدِّينيَّةُ ولا المراكزُ الدُّنيويَّةُ، ويكفينا شرفًا أن نكونَ باحثينَ دينيِّينَ علويِّينَ همُّنا ردُّ شبهاتِ أهلِ التَّضليلِ والتَّزييفِ بحقِّ نهجِنا العظيمِ.. نهجِ أميرِ المؤمنينَ والأئمَّةِ المعصومينَ والتَّابعين لهم بإحسانِ من أهلِ الولايةِ واليقين.
فنحنُ نقاتلُ من يقاتلنا ويكفِّرُنا ونقفُ له بالمرصادِ ونقارعُهُ بالحجَّةِ والبرهانِ اقتداءً بأمير المؤمنين كرَّمَ اللهُ وجهَهُ الذي أعطى منهجًا لنا بأن القتالَ يكونُ لمَن يفكِّرُ بالإساءةِ إلينا، ولذلك رأيناهُ في رسائلِهِ إلى معاويةَ موبِّخًا مُعنِّفًا لمخالَفَتِهِ الأسسَ الإسلاميَّةَ، ولمَّا لم يَفِئ معاويةُ للحقِّ، وهو يعلمُ ذلكَ منه، قاتَلَهُ في صفِّينَ، وكانت هذه الحربِ عبرةً للمتقاعسين اليوم عن أداءِ مسؤوليَّاتِهم.
فعندما انطلقَ في صفِّينَ، أرادَ أن يلقِّنَ البشريَّةَ درسًا في معنى الجهادِ، وعندما استبطأَ أصحابُهُ إذنَهُ لهم بالقتالِ قالوا: (أكانَ ذلكَ كراهيَّةً للموتِ؟ أو شَكًّا في أهلِ الشَّامِ؟)، فقالَ لهم: (أمَّا قولُكم: أكانَ ذلكَ كراهيَّةً للموتِ، فواللهِ ما أبالي أدخلتُ إلى الموتِ أو خرجَ الموتُ إليَّ، وأمَّا قولُكم: شكًّا في أهلِ الشَّامِ، فواللهِ ما دفعتُ الحربَ يومًا إلَّا وأنا أرجو أن تهتديَ بي طائفةٌ).
وعندما سمعَ من جنودِهِ العراقيِّينَ سبًّا لأهلِ الشَّامِ قال لهم: (إنِّي أكرهُ لكم أن تكونوا سبَّابينَ)، فليسَ من أخلاقِ أتباعِ أميرِ المؤمنينَ أن يعالجوا مشاكِلَهم بالسَّبِّ والشَّتمِ، لأنَّ السُّبابَ والشَّتائمَ ينطلقُ من عقدةٍ شيطانيَّةٍ وليسَ من روحيَّةٍ رحمانيَّةٍ، وتابعَ قائلاً: (ولكنَّكم لو وَصَفْتُمْ أعمالَهم وذكرتُمْ حالَهم لكانَ أصوبَ…)، وهذا هو المنهجُ العلويُّ الإسلاميُّ في النَّقدِ والتَّقييمِ والرَّدِّ، فنحنُ عندما نختلفُ مع طائفةٍ أخرى نقدِّمُ القضيَّةَ الّتي نختلفُ فيها معها، فلا نسبُّها ولا نشتمُها بل نصفُ أفعالَها وانحرافاتِها، لأنَّنا لا نحقدُ على أحدٍ أصغرَ منَّا، فالإناءُ الكبيرُ يستوعبُ الإناءَ الصَّغيرَ، وإناؤنا الخصيبيُّ كبيرٌ بعلومِهِ وعرفانهِ وأخلاقِهِ وأدبيَّاتِهِ، لكنَّهُ لا يمكنُ أن يكونَ ضعيفاً وهزيلاً وجبانًا، فأينَ الشَّتَّامونَ والسَّبَّابونَ والنَّاكثونَ والمخالفونَ والضُّعفاءُ والمتقاعسونَ من أمير المؤمنين الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ في خلافاتهم المذهبيَّةِ والطائفيَّةِ والحزبيَّةِ والعشائريَّةِ وغيرها؟
نحنُ تعلَّمنا من الإمام علي كرَّمَ اللهُ وجهَهُ أن نجاهدَ لأنَّنا نحملُ مسؤوليَّةَ العلمِ ونقدِّرُها، وكما قالَ الإمامُ الصَّادقُ (ع): (ما أخذَ اللهُ على أهلِ الجهلِ عهدًا أن يتعلَّموا العلمَ، إلَّا وأخذَ على العلماءِ سبعينَ عهدًا أن يعلِّموهُ).
فنحنُ نكتبُ ونشرحُ ونعلِّمُ من موقعِ هذه المسؤوليَّةِ الملقاةِ على عاتقنا، ونردُّ على الشُّبُهاتِ، ولا سيَّما عندما تنتشرُ البدعُ والأكاذيبُ، وبخاصَّةٍ في هذا الوقتِ الذي تحرَّكَتْ فيه النِّزاعاتُ الفكريَّةُ والأخلاقيَّةُ لتُربِكَ النَّاسَ والشَّبابَ عمومًا كما وصفَهم تعالى بقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى)، ولكنَّ ميزانَنا واضحٌ للجميعِ في قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ).
نكتفي لعدمِ الإطالةِ واللهُ أعلمُ
الدكتور أحمد أديب أحمد