هل يمكن لأي شخص أن يمس الرجفيدا النص الهندوسي المعصوم ؟ أم أن ذلك حكراً على الكهنة فقط ؟ وكان الجواب لا يمكن أبداً
من هنا بدأ التفكير بكتاب مقدس آخر يحلّ محلّ الرجفيدا ولا ينتقص من التقاليد في شيء وبذات الوقت يبعد الرجفيدا عن عامة الناس وكان الجيتا هو ذلك الكتاب والذي أصبح بمثابة إنجيل الهند وأصبح الهندوسي يضع يده على الجيتا لأداء القسم ومما تجدر الإشارة إليه فلم يتم فيُّ حينها تأليف الجيتا إذ أنه كان موجوداً ومتضمناً في الملحمة الكبرى ـ المهابهارتا ـ وتم استخلاص ـ الجيتا ـ وفرزها في كتاب مستقل
وباجافاد وجيتا حوار متصل ومتواصل بين سري كريشنا وبطل الباندافا ـ أرجونا ـ ويضم (692) مقطعاً شعرياً ويقع في (18) فصلاً
وانطلاقاً من العقيدة الهندوسية فإن سري كريشنا قد تجسد بهيئة الإله فشنو وهو عادة ما يفعل ذلك عندما يصيب ميزان العدالة الاختلال فيعود للأرض من حين لآخر ليملأها عدلاً بعد أن تكون قد ملأت ظلماً وجوراً ولكن من هو ارجونا ؟ ولماذا هذا الحوار بينه وبين سري كريشنا ؟
يبدأ الكتاب بسؤال يطرحه ظريتاراشترا على سانجايا قائلاً: أوه سانجايا
أخبرني ما الذي يحدث حين يلتحم جنودي المتشوقين للقتال مع جيش الباندافا في
ميدان كوروكشيترا ؟
فمن هم الباندافا ؟ ومن هم الكورو ؟ ولماذا يتوجب على الطرفين أن يقاتلا بعضهما ؟
ويجرنا هذا التساؤل إلى مشهد في الجنة وهو أصل الحكاية ـ فقد كان هناك ثمانية من الدفق المنوي نزل في يوم ما إلى الأرض لزيارة صومعة الكاهن فاسيشذا والذي لم يكن حاضراً وكانت هناك بقرته البيضاء والمسماة كاماظينو ( وهي نوع من الأبقار التي تدر الحليب بإرادتها ) ترعى في الحقول وأعجب الدفق بالبقرة
غير أن أصغرهم أصر على أخذها معه وحينما عاد الكاهن لم يجد البقرة ولكنه أدرك ببصيرته ما حدث أثناء غيابه فقام يلعن الدفق وقال بضرورة نزولهم إلى الأرض.
وحاول الدفق إقناع الكاهن بالعودة عن اللعنة غير أنه أصر وذهب الدفق يتوسلون إلى الآلهة جانجا أن تجد لهم حلاً وأن ترضى بأن تكون أماً لهم
وفي أحد الأيام وبينما كان الملك سانتانو يتربَّص على ضفاف نهر الكنج شاهد أمامه امرأة فائقة الجمال ورغب أن يقترن بها ووافقت بشرط ألا يسألها عن أي تصرف تقوم به واقترن بها الملك وفي كل سنة وعندما تلد طفلاً تأخذه وترميه في النهر والملك يتألم دون أن يستطيع سؤالها خشية أن يحنث بوعده وبعد أن قتلت أبنائها السبعة جاء موعد ولادتها في السنة الثامنة وحينما همت بقتل الطفل أعترض الملك على ذلك عندها أجابته : حسناً خذ الطفل فهو لك ثم قصت عليه القصة كاملة وقالت بأنها لم تعد بذلك زوجة له واختفت من أمامه
وراح الملك يربي الطفل الذي أصبح فيما بعد ((بشما)) العظيم وفي إحدى الأيام وبينما الملك يتمشى على ضفاف النهر ملأت أنفاسه رائحة عطراً وفجأة ظهرت أمامه عذراء جميلة ورغب أن يقترن بها وحين قابل والدها اشترط عليه الأب أن يكون أحفاده ملوكاً ويرثون العرش ووقع الملك في حيرة إذ أن عرشه كان من نصيب (بشما) وحين علم بشما بالأمر توجه إلى والد الفتاة وخطب الفتاة لأبيه وتعهد أن يتنازل عن العرش وألا يتزوج عندها تم زواج سانتانا من ساتيافي ورزق منها بولدين هما: شترانجادا وفيشيسترافربا وتوفي الاثنان تاركين أرملتين فيما بعد
وأنجبتا ولدين هما: ظريتاراشترا و باندو وقد ولد الأول كفيفاً أما باندو فقد كان مريضاً ونظراً لأن الأول كان كفيفاً
فقد تولى الثاني شؤون المملكة وولد لظريتاراشترا مائة ولد عرفوا فيما بعد باسم (الكورو) وكان أكبرهم يدعى
درويوظانا
أما باندو فقد ولد له خمسة أولاد هم على التوالي :
يواظيشيترا, بيما, أرجونا, ناكولا, سهاديفا, وعرفوا فيما بعد باسم (باندافا)
وبعد وفاة باندو تولى يواظيشيترا الحكم بمساعدة بشما والآخرين وكان الكورو يشعرون بالغيرة من الباندافا وحاولوا عدة مرات أن يوقعوا الضرر بهم مما دفعهم إلى ترك المملكة وأخذ أمهم ـ كونتي ـ معهم والعيش متخفين وففي أحدى السباقات التي تم تنظيمها لاختيار عريس لأحدى الأميرات أستطاع الباندافا أن يفوزوا بالمباراة وتصبح الأميرة زوجة الأخوة الخمسة وعادوا إلى حكم المملكة وراح الكورو يفكرون بطريقة جديدة لتجريد فاندافا من ملكهم واقترح درويوظانا على يواظيشيترا أن يلعبا النرد وبدأت المباراة وبدأ الأخير يخسر وخسر مملكته
وإخوانه وزوجته
تمَّ التقرير على إثر المباراة نفي الباندافا لمدة ثلاثة عشر سنة في الغابة على أن يعيشوا السنة الأخيرة متخفين دون أن يكتشفهم أحد وبعد كثير من المعاناة والتفاصيل وبعد إنقضاء المدة المقررة للنفي عاد الفاندافا ليطالبوا بالمملكة فرفض درويوظانا منحهم حتى بوصة واحدة من الأرض وتدخل الكثير من الأشخاص لإيجاد حل للأشكال وإقناع درويوظانا ومنهم سري كريشينا الذي عمل بمثابة وسيط سلام دون جدوى ولم يقاتل غير أنه قاد عربة أرجونا
وانقسمت القبائل بين مؤيد لحق الباندافا ومساند للكورو وتقع المواجهة بين الجيشين فيهزم الكورو في معركة ( كوروكشبترا) الشهيرة والتي استمرت ثمانية عشر يوماً وشارك بها معظم ملوك الأرض آنذاك
تلك هي باختصار حكاية ملحمة المهابهارتا
أما الباجافادجيتا
فبينما الجيشان متأهبان للقتال وسري كريشينا يقود عربة أرجونا فإنه يلاحظ حالة الإحباط التي أصابت بطل الباندافا ـ أرجونا ـ فيوقف عندها الحرب ويبدأ الحوار بين الاثنين وهو الذي عرف فيما بعد بـ ـ الباجافادجيتا ـ ويحوي خلاصة الفلسفة الهندوسية والموقف إزاء الوجود برمته وإزاء الأحداث وكيفية التصرف إن الباجافادجيتا التي تحتلُّ الفصول (23- 49) من ملحمة المهابهارتا تتضمن فلسفة سري كريشينا وتطبيقاتها في الحياة وردِّه على الأفكار المثالية التي راودت أرجونا وأشاعت في نفسه حالة من الإحباط لم يكن من الممكن لولا تلك الحوارية التي عرفت فيما بعد باسم ( الباجافادجيتا ).
والسؤال الملح الذي يجب الإجابة عليه: الباجافادجيتا لماذا ؟ ولماذا بالعربية؟
تعتبر المهابهارتا والرامايانا وهما الملحمتان الرئيسيتان في الأدب الهندي المصدر الرئيسي تقريباً لجميع الكتب المقدسة التي ظهرت فيما بعد والتي عالج كل منها موضوعاً محدداً.
فالرجفيدا: عالجت أسطورة الخلق الهندوسية وتكوين العالم
والباجافادجيتا: عالج الوسائل الكفيلة بإيجاد حالة الانسجام بين الذات والموضوع
والكوماسوترا: عالجت بشكل تطبيقي العلاقة بين الرجل والمرأة وهكذا
إنها جميعاً تصبُّ في إطار موقف الإنسان من العالم والكون وتعدُّ جزءاً من سيرة الإنسان وتطور ذهنيَّته ورؤيته للعالم والكون
وإن كان لا بدَّ من القول : فإن الباجافادجيتا في إطارها الأشمل جزء من كنوز الفكر الإنساني وتقديمها بالعربية يقدم خدمة للدارس والباحث المقارن والمتخصص ويمكن النظر إليها باعتبارها جزءاً من علم الميثولوجيا والأساطير
الذي لا يستغني عنه كلَّ مهتمَّ بالأدب والثقافة
والله من وراء القصد.